الحج هذا الركن العظيم من أركان الإسلام الذي تهفو له قلوب الملايين من المسلمين، يكاد يمثل الصورة الإسلامية
المنشودة للبشرية، فرغم انحسار القوة المادية لسلطان الإسلام اليوم - بعد أن كان يحوى تحت جناحه غالب أقطار ا
لعالم المعروف قبل اكتشاف الأمريكيتين- ورغم هذا الانحسار لسلطان الإسلام، إلا أن الشعوب المسلمة لم تتخلَ
عنه ولم تتركه، بل استمرت مخلصة للإسلام متفانية في حبه والعمل لحمايته.
إن غاية ما يسعى له العقلاء والمفكرون في العالم وعبر العصور هو الوصول لصيغة تجمع شمل العائلة البشرية، ولذلك
طرحت العديد من التصورات ولكن لم تستطع أي منها من تحقيق ما تصبو إليه، لأسباب متعددة ترجع كلها لنقص التصور
البشري واستحالة اتصافها بالعدالة المطلقة والحيادية الكاملة.
ولكن الإسلام لكونه الدين الخاتم للبشرية والمحفوظ بالعناية الإلهية استطاع أن يحقق هذه الغاية في زمن قوته
وضعفه، فحين كانت راية الإسلام خفاقة عالية دخلت فيه الشعوب طواعية، وانصهرت في بوتقة واحدة تعمل لغاية
واحدة وهي عبادة الله عز وجل بأداء الشعائر وإقامة الحياة على سبيل العدل والحق، فتناوب على حمل الراية والقيادة
أمم مختلفة وشعوب متعددة، ولم تنحصر في جنس أو لغة أو مكان، بل تنقلت وتبدلت وبقي الثابت لهم جميعاً هو ا
لإسلام.
وها نحن أولاء اليوم في عهد ضعف الإسلام، ما نزال نعيش تنوع أمم الإسلام وتراحمها وتناصرها وتعاونها، رغم ا
لعقبات والمعوقات الداخلية والخارجية، لا يجمعها خوف من عقاب أو طمع في مكسب، بل هي القناعة بالإسلام دين
الله للبشرية " إن الدين عند الله الإسلام".
فعلى أحكام الدين ومفاهيمه وتصوراته اجتمعت هذه الملايين من الناس، وأوفدت منهم بعضها للحج، لتقدم للعالم ا
لأنموذج الذي يسعى إليه في وحدة البشرية وتعاونها وتكافلها، ورغم ما مرت به شعوب العالم من تجارب قديمة
وحديثة إلا أنها لم تستطع الوصول لما وصلت له الوحدة الإسلامية، من الانتماء الصادق والمساوة بين الجميع دون فارق
بين كبير وصغير وقوي وضعيف وغني وفقير.
إن البشرية بسبب التقارب المكاني والتواصل الإعلامي أصبحت أكثر إدراكاً لحاجتها للوحدة والسلام، والابتعاد عن
الحروب والمعارك، ومحاربة الفقر والجهل والمرض، دون محاباة أو تحيز، وأن يكون هذا عاماً لا خصوصية لبعض الأفراد
بسبب نبل في الأخلاق أو رجاحة في العقل، بل أن يكون توجها عاما يحكم السياسة والاقتصاد لا متحكما به منهما كما
نرى في العالم اليوم، فحق الفيتو كم حمى الظالمين، وإتلاف الغذاء حفاظاً على الأسعار كم قتل من الجائعين،
وسرقة العقول كم أخرت الدول النامية والأمثلة كثيرة جداً.
ا
لواقع الإسلامي اليوم رغم ضعفه يثبت أن مبادئ الإسلام هي التي يصلح أن تجتمع عليها البشرية وأنها قادرة على
العطاء مهما تغيرت أحوال الناس وتنوعت طرائقهم، وأنها تستطيع أن تستوعب كافة التطورات العلمية لأنها مبادئ من
عند الله من جهة ولأن العلوم نفسها إنما هي في الحقيقة معرفة أدق بمخلوقات الله عز وجل، وفي الحج نرى تطبيق
هذه الحقيقة من خلال تضاعف عدد الحجاج أضعافا كثيرة جداً ورغم ذلك أمكن تطويع العلوم العصرية لتحقيق أداء الحج
ولهذه الأعداد الضخمة بنفس الهيئة المعروفة.
في الحج نشهد اختلاط هذه الشعوب المسلمة المختلفة اللغات والأجناس والأعراق والألوان والثقافات، وهذه هي ا
لصورة المنشودة إسلاميا للبشرية، وحدة في إطار التنوع، وحدة ولكن بدافع الإقتناع وبعيداً عن أية ضغوط أو مؤثرات،
وحدة تتناول جوانب متعددة من حياة البشر يضع قواعدها الخالق العظيم والعالم الرحيم.