السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
القصة منقولة على لسان صاحب القصة شخصياً
رأيت الموت ...
اللهم إني أعوذ بك من ميتة السوء
الحمد لله الذي هدانا إلى سبيله الحق وعافانا مما ابتلى به كثيرا من الخلق واستأثر لنفسه بالبقاء بما كتب من الفناء على الخلق ذلك بأنه هو الحق
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له حي لا يموت قيوم لا ينام لا يفنى ولا يبيد ولا يكون إلا ما يريد ، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله تركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ولا يتبعها إلا كل منيب سالك،
وبعد...
1- أول أيام العيد:
- تعودت (بفضل الله) منذ زمن طويل أن أقسم يوم العيد الأول بين الصلاة ثم التضحية (إن يسر الله) ثم المرور على الأصحاب و الأحباب والأهل ... قد يكون اليوم مرهقا، ولكنه إرهاق ممتع؛ أن ترى أكثر من تحب في يوم واحد ...
- بعد العصر نبدأ بتجميع لحوم الأضاحي ومن ثم توزيعها بعد العشاء على المستحقين من أهل الحي وما فاض ندفعه إلى الأحياء المجاورة، وهكذا ينقضي اليوم الأول بفضل الله.
2- اليوم الثاني من أيام العيد:
تعودت بفضل الله أن أخصص هذا اليوم لزيارة أخواتي البنات في الإسكندرية، ولكن قدر الله أمرا ، فقد اتصل بي أحد أهل الخير يفيدني بأن هناك كمية كبيرة من لحوم الأضاحي وأنه سيرسلها لي للتصرف فيها،
وبالتالي لم أسافر كالمعتاد في بداية النهار وتأخرت حتى صلاة الظهر،
وبعد صلاة العصر مباشرة اعتذرت من أولادي وأهلي بأنني لن أستطيع اصطحابهم لأني لا أحب سفر الليل،
استقللت سيارة أجرة للذهاب إلى موقف السيارات ولكني عدت إلى البيت من منتصف الطريق، وتعجب الأولاد والأهل لذلك،
ثم أراد الأولاد أن أصطحبهم للنزهة، فاعتذرت منهم لأنني كنت مرهقا، وانتهيت الموقف بوعد مني أنني سأصطحبهم معي لزيارة عمتهم بالإسكندرية صباح اليوم التالي بإذن الله، واشتعل البيت بالصياح فرحا بهذا الوعد.
3- اليوم الثالث من أيام العيد (اليوم الطويل):
في التاسعة من صباح اليوم الثالث من أيام العيد أيقظني أهلي وهم يحدثونني حديثا مفاده ألا أسافر، وأنها لن تستطيع السفر معنا لأن (سلمى – ابنتي الصغرى) مريضة،
ولم أشأ أن أعكر صفو الأولاد (أنس - معاذ) فقررت اصطحابهم كما وعدتهم،
استعنت الله وأثناء ارتداء ملابسي كانت سلسلة الوصايا من (أم أنس) عن نفسي والأولاد حتى كانت تكرر الكلمات عدة مرات وحتى أوصلتني إلى حد التوتر، وقررت بفضل الله ألا أصطحب الأولاد معي.
ثم انطلقت - مستعينا بالله - قاصدا وجه الله بصلة الرحم، وانقضى الوقت طيبا مباركا فيه بفضل الله تعالى، وقبيل المغرب قررت العودة ، واحتالت علي أختي ألا أسافر ليلا ولكن قدر الله وما شاء فعل، أديت صلاة المغرب ثم جمعت العشاء قصرا و تقديما.
ثم استقللت سيارة أجرة وبالقرب من الموقف رأيت يمين الطريق سيارة (جمع القمامة) وقد احترقت تماما ولم يبق إلا هيكلها وأخبرنا الناس أن العمال والسائق نجوا جميعا بفضل الله. دعوت الله ساعتها أن يعيذني من ميتة السوء
وتذكرت ساعتئذ أنني لم أكمل أذكار المساء فشرعت فيما بقي منها بفضل الله.
دخلت إلى الموقف وإذ بسيارة (بيجو 504) لم يبق لها إلا فردا واحدا ليكتمل العدد وتنطلق، ...
سألت عن السائق – كعادتي - فأشاروا إلى شاب في أوائل العشرينيات فألفيته يداعب الجميع ويضاحكهم، فلما علمته شابا رفضت الركوب وقلت لا أخالف قواعدي فلا أركب إلا مع كبار السن من السائقين فغالب حال الشباب – على حد رأيي - التهور ونقص الخبرة.
ولم يغن حذر من قدر
احتال الناس علي تارة واحتال السائق أخرى "هلم واركب معنا لم يبق إلا أنت" "هيا كي لا نتأخر"
و كان كرسي المنتصف ينتظرني وكانت عادتي أن أركب بجوار السائق حتى لا أزعج أحدا ولا يزعجني أحد. وإذا قمت باصطحاب الأهل والأولاد أجعلهم في كرسي المنتصف، وكان قدر الله.
انطلقت السيارة وبعد أن خرجنا إلى الطريق السريع انطلق صوت الغناء من مسجل السيارة فقلت للسائق أيهما أفضل القرآن أم الغناء القرآن طبعا،
فرد السائق: حاضر يا شيخ ، ولكنه لم يغلق المسجل.
اشتغلت بالأذكار ناويا أن أشغل هاتفي على القرآن وإذ بي أغفو لحظة
وما أن تجاوزنا مركز (أبو حمص) وعند قرية (السحالي) أفقت على صوت السائق ( حاسب يا له) وإذ بصبي يركب دراجته ويمرق عن يسارنا ،
وإذ بالسيارة تنحرف يمينا لتفادي الصبي ثم تنحرف شمالا وأثناء ذلك صرخت على من بيده مقادير كل شيء ( يا الله ... الله أكبر) أكررها بفضل الله ... ولكن صوتي يخرج هذه المرة من قلبي وكأني أناجي الله لأول مرة في حياتي وسمعت آخر يصرخ : (يا خرابي يابه)
وألهمني الله فوضعت يدي على رأسي وانكمشت بين رجلي
ثم انقلبت السيارة ظهرا لبطن تسير زاحفة على ظهرها عدة أمتار لتدل على سرعة السائق – غفر الله له ورحمه -
ساعتها شعرت بضربة قوية هوت على ظهري، إنه الكرسي المتحرك في الوسط،
كانت يدي على رأسي وقد التصقت بسقف السيارة من الداخل وكأن كل حبة رمل أو حجر تزحف عليها السيارة تحت يدي ورأسي مباشرة ...
حتى انخرق سقف السيارة من فوق رأسي مباشرة وحماني الله بخاتم كنت ألبسه في يدي اليسرى فكانت الأرض تحتك بالخاتم الذي طار فصه بعد أن قدر الله له مهمة قد انقضت ... ولله الحمد والمنة.
وأما داخل رأسي فكانت تعج بما أحفظ عن صلة الرحم وقد جاء في الأثر (وصلة الرحم تزيد في العمر والصدقة تدفع ميتة السوء)
تذكرت توفيق الله لي بأن أجلت سفري في اليوم الثاني حتى يتم توزيع لحوم الصدقة (الأضحيات) التي تأتي المسجد.
وما هي إلا ثوان معدودة حتى استقرت السيارة يسار الطريق
ممدت يدي عن يميني فوجدت فراغا ويدي لا تلمس شيئا فألقيت نفسي يمينا فوجدتني خارج السيارة
و والله لا أعلم كيف خرجت ؟ إلا أنه فضل الله وحده.
وقفت على قدمي والدم ينزف من رأسي وأنا لا أكاد أصدق ما أراه، فمنظر السيارة تكاد تطير له الألباب، وألهمني الله حمده
الحمد لله ... الحمد لله ... الحمد لله
تذكرت الفتاة الصغيرة التي كانت تركب في المقدمة مع والدها... نظرت إلى مكانها فوجدتها فوق والدها بجوار السائق أخرجتها ولم يصبها خدش واحد بفضل الله،
كان أول من وصل إليَّ شاب وراح يجفف الدم عن رأسي وقال لا تقلق جرحك صغير انت بخير وراح يتحسس أكتافي وضلوعي ...
وجاء الناس سِراعا يُخرجون مَن في السيارة فلم ترَ عيني إلا الدماء ولم تملأ أنفي إلا رائحة البنزين التي أغرقت ملابسي، فحمدت الله أن أحدهم لم يكن يدخن في هذا الوقت وإلا ...
وكان آخر مَن أخرجوه السائق بحثت في جسده فلم أجد فيه خدشا واحدا ولكننه قد فارق الحياة جزم بذلك المسعفون الذين جاؤا بعد دقائق معدودة.
تحسست جيوبي فلم أجد الحافظة ولا الهاتف ولا سلسلة المفاتيح...
فتذكرت فورا هذا الشاب الذي وصل إليَّ قبل الجميع وراح يتحسس ذراعي وصدري كأنه يطمئن عليَّ ... تذكرت ... لقد وضع يده أكثر من مرة على جيوبي وحسبته يتحسس جرحا أو كسرا في جسدي ولكنه ... غفر الله له ... كان يسرقني ... وشر البليَّة ما يضحك.
و قلت الحمد لله قدر ولطف.
توقف أحد السائقين بجواري راح يطمئن عليَّ فأنا الوحيد الآن الذي يقف على قدميه ممن كانوا في السيارة.
أقصد النعش الطائر (كما كانوا يسمونها قديما)
قلت: له أن بخير الحمد لله ... جزاك الله خيرا
قال: سآخذك معي ... فقلت كيف ذلك السيارة لا تسع أكثر من سبعة ركاب؟
ويا لروعة الإسلام والمسلمين عندما يكونون كالجسد الواحد،
انكمش الركاب جميعا في المقعدين الخلفيين وتركوا لي المقعد الأمامي
وطوال الطريق ما إن أغمض عيني إلا وأسمع النداء يا شيخ أنت بخير (مرات عديدة) ووالله شعرت أنني وسط أهلي حتى وصلنا إلى مدينتنا، وانصرف الجميع وما تركني السائق حتى بلغني أهلي، فجزاه الله عني خيرا.
لا أعرفهم ولا يعفونني ولكن حسبي أن الله يعرف الجميع
مشاعر عديدة اختلطت في ذهني ذلك اليوم منها:
1- ليس الخبر كالمعاينة
ليس من سمع عن الموت كمن رآه ... فقد تكلمت في دروس وخطب ومواعظ عن الموت وحسن وسوء الخاتمة ، ولكني الآن فقط سأتكلم عن ذلك بشكل جديد وإحساس جديد.
2- الموت أقرب غائب ننتظره
فمهما طال العمر لابد من دخول القبر
3- ليس الموت راحة كل حي
فرب منعم في الدنيا متمتع بلذاتها معذب في الآخرة إن لم تدركه رحمة الله.
4- صلة الرحم تزيد في العمر والصدقة تدفع ميتة السوء
كيف لا وصنائع المعروف تقي مصارع السوء ، ثبتنا الله على الحق.
5- قضاء الله كله خير ومن ذلك:
- أن تمرض ابنتي فلا اصطحبها وأمها معي في السفر.
- ألا أصطحب أولادي معي وعدم تضجرهم من ذلك.
- أن أغير الخاتم الصغير إلى خاتم أكبر له فص أكبر لا أحب لبسه.
- أن أرى السيارة المحترقة فأستعيذ بالله من ميتة السوء و أكمل الأذكار بعد صلاة المغرب على غير عادة.
- أركب مع سائق شاب في سفر طويل على غير عادة.
- ألا أركب في الكرسي الأمامي كعادتي وأجده مشغولا.
- يلهمني الله أن أضع يدي على رأسي ويحميني الله بالخاتم الذي لا أحب لبسه.
وأخيرا أهدي هذه النصيحة الشعرية لكل من دعا لي بالشفاء وحسبي أن تقول لكم الملائكة ولكم بمثله
رأيت الموت
رأيتُ الموتَ يهتفُ بالبرايا أنا الأقرب ولكن لا تبالوا
أنادي فيكمُ ليلا نهارا لقد قَرُبَ الرحيلُ ألا تعالوا
أعدوا الزادَ للُقيا أعدوا فأهلُ الحقِّ صالوا به جالوا
ألا لو يعلمُ الطاغونَ حقا لما نعموا بذي الدنيا وقالوا
يراني الناسُ في كلِّ اتجاهٍ أحاولُ جاهدا فيما يحالُ
دعوتك يا إلهَ الكون ذلا بإلحاحٍ تقومُ له فِعالُ
مددت يداي يا ربي أغثني وجُد عفوا فأوزاري ثِقالُ
فلا تردُد يداي إليَّ صفرا فجودُك لا حدود له تقالُ
وكتب بفضل الله وحده (أبو أنس - حادي الطريق)
عفا الله عنه